يدور هذا البحث حول مفهوم السببية في الفكر الرافدي القديم محاولاً أن يقدم الإجابة عن السؤال الجوهري: هل يؤمن الفكر الرافدي بمفهوم السببية و يقوم على أساسه؟
بمعنى: هل تحمل الأساطير الرافدية التي تعرفنا من خلالها على المجتمع و الفكر الرافدي إرهاصات لهذ
ا المفهوم؟
و إذا كانت الإجابة: نعم، فهل يمكننا الإقرار بأن معنى السببية في الفكر الرافدي هو نفسه كما يُعرف اليوم في الأبحاث العلمية التي تسعى للوصول إلى قوانين عامة تحكم الكون و العالم بحيث يكون بمقدورها أن تفسر اختلاف الحالات و الظروف. أم أنَ مفهوم السببية له – في الفكر الرافدي- خصوصية فريدة هي ما نخمن أن البحث سيعمل على الوقوف عليها و فهمها.
من هنا سنحاول- قدر المستطاع- أن نجيب عن هذه الأسئلة بالاعتماد على فهمنا للكون الرافدي و محتوياته الزاخرة التي كانت تتفاعل مع بعضها البعض, فتؤثر و تتأثر بحيث تشكل مجتمعاً رافدياً ينطلق فهم الإنسان فيه من وجهة نظر ترى في الشخصيات محركاً أساسياً للكون و العالم, و تغض الطرف عن أحداثه و ظواهره فيما هي كذلك.
و هو ما ينقلنا للإجابة على سؤال جوهري يتلخص في المدى الذي يستطيع فيه الإنسان – بموجب هذا الفهم الرافدي للكون- أن يخلق مصيره بذاته في ذات الوقت الذي يخلق فيه مصير الموجودات من حوله.
يدور هذا البحث حول مفهوم" الإله الشخصي في وادي الرافدين" ذلك الإله الذي كان له دوراً بارزاً و فعالاً في تضييف المسافة بين عالم الآلهة و عالم البشر, و ذلك بقيامه بدور الوسيط بين هذين العالمين: فهو ينقل أوامر الآلهة و رغباتها إلى عالم البشر, و كذلك فهو
يحمل أماني و تطلعات الإنسان إلى عالم آلهته.
و لكن طبعاً وفق شروط معينة و اتفاق مسبق يعقد بين الطرفين ( الإنسان الرافدي و إلهه الشخصي) : فعلى الإله الشخصي حماية الشخص المنتمي إليه من كل ما يسبب له المصائب أولاً, و التوسط لدى كبار الآلهة ثانياً.
و في المقابل يدين الانسان لإلهه الشخصي بالولاء و الطاعة و طبعاً يقدم له القرابين المناسبة.
حول هذه الفكرة و وظيفتها سيتركز بحثنا هذا علنا نستطيع إلقاء الضوء على جانب مضيء في الفكر الرافدي القديم.