شكّل النصّ القرآني من حيث هو رسالة سماوية، بناء تبليغياً وفق قواعد اتّصاليّة, فخاطب و حاور الآخر، و نال القرآن الكريم قسطاً كبيراً من الدراسة و التحليل. فلم تبق منه ظاهرة إلا و تعرّض إليها العلماء و الباحثون ـ قدامى و معاصرون ـ في هذا الكتاب العزيز. و لكن كلما درسنا النص القرآني من جانب مختلف، كشفنا وجوها عدة جديدة. فكانت ظاهرة الاتصال فيه، مفتوحة على شؤون الناس، و ما يخصّ تجددها و تطورها الدائم، متخذاً الإقناع سبيلا يسلكها في استقطاب الناس نحو الإسلام. فالقرآن الكريم جاء ليسطر علاقته مع خالقه و نفسه و غيره من البشر. فهو رسالة موجهة إلى البشرية جمعاء، يُعتمد فيها على مخاطبة العقل في عملية الإقناع، مقدما بذلك لغة حية تصلح لكل العصور لها دور فعال في إقناع الآخرين، هي في أساسها موجهة من أجل التأثير على آراء المخاطب و سلوكياته و استمالة العقل، وفق استراتيجية لغوية خاصة، تقوم على أساس توظيف اللغة داخل بنية متجددة، ترتبط بالمتكلم و المتلقي داخل سياق اجتماعي و نفسي و اتصالي محدد، غايتها تتمثل في التأثير بالمتلقي. و في عملنا هذا نتعرض إلى سورة مريم، التي تشكل قدراً كبيراً من الأهمية في الدراسة اللغوية، و فيها مخاطبة الناس و وعظ و مجادلة و مناظرة، إضافة إلى طريقة خاصة في إقامة الحجة و البرهان و الاستدلال. إن النصّ القرآني، لا يقصّ قصة إلا ليواجه بها واقعاً، و لا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا، و هي الغاية الأسمى في الاتصال، إذ يحاول المتكلم التأثير في الآخر و جعله يقتنع بالطرح الجديد، فيتوصل إلى التأثير على الطرف الآخر الجديد، و بالتالي يلزمه الحجة معتمداً على قصص الأنبياء و المرسلين الذين أرسلوا إلى الأمم السابقة. و من هنا برزت أهمية البحث بوصفه موضوعا من الموضوعات العلمية، المتصلة بأشرف كتاب في هذا الوجود، ألا و هو القرآن الكريم. ذلك أن الاتصال ارتقى لأن يكون علماً من أهم العلوم اللسانية برمتها، بالإضافة إلى تقصي الظواهر في القرآن الكريم و محاولة الكشف عن أغوارها عن طريق إثباتات مؤسسة على نظريات علمية حديثة، تبحث في علم أصيل له أسس و ضوابط مختلفة و كل ذلك من خلال القرآن الكريم. و قد اخترت المضامين الاتصالية و الإخبارية في سورة مريم موضوعا للدراسة بسبب جدته في الدراسات العربية المعاصرة، في جانبها النظري و محدودية الدراسات التطبيقية في مجال التحليل القرآني.