كيف نشأت الفلسفة؟


اختلف مؤرخو الفلســفة حول المكان الذي نشأت فيه لأول مرة، فذهب فريق منهم إلى القول بأنها نشأت في بلاد اليونان، وأن «طاليس» في النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد هو أول الفلاسفة، أمــا قدمــاء المصريين فإنهم لم يعرفوا مثل هــذا اللون من التفكير النظري فاتجــه تفكيرهم - في الأعم الأغلب - نحو موضوعات دينية وعملية، وقد ذهب إلى هذا الرأي أرســطو ً قديما وبرتراند رسل ً حديثا، وحجتهم في ذلك يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- اعتمد هذا الفريق على تعريف الفلســفة بأنها تفكير مجرد، ٌ وســعي إلــى طلب المعرفة لذاتها، بهدف الوصول إلى الحقيقة بغض النظر عن أية منفعة عملية أو دينية.

2- اختلط التفكير في الشــرق بالعقيدة الدينية التي سيطرت على حياتهم ونظمت سلوكهم، فاهتموا بالتفكيــر في الألوهية والبعث والخلود، والخير والشــر، والمبدأ والمصير فــي حين أن التفكير الفلسفي اليوناني كان يسعى إلى المعرفة للمعرفة، إذ اتجه العقل عندهم إلى الكشف عن الحقيقة لذاتها بعيداً عن أية اهتمامات دينية.


3-  إذا كان المصريون ً مثلا قد اهتموا بالعلوم فقد كان ذلك لأغراض عملية ودينية فحسب، فهم عندما درسوا علم الكيمياء لم يفعلوا ذلك إلا ليستعينوا به في تحنيط الجثث، واستخراج العطور والأصباغ والألوان يزينون بها جدران المعابد والمدافن، دون الاهتمام بتأسيس القواعد النظرية للعلم.

4- إذا كان عند الشرقيين أي قدرمن التفكير العقلي فهو وليد معتقداتهم الدينية (كالخلود والبعث والحساب... إلخ). فلم يســتطيعوا فصل الفلســفة عن الدين، ومعالجة موضوعاتها لذاتها، أما الفلسفة «معجزة اليونان لأنهم ابتكروها دون أن يعتمدوا على دين أو عرف بل استندوا إلى منطق العقل وحده». أما الفريق الثاني فقد ذهب إلى أن الفلســفة ظهرت أولا عند قدماء المصريين وحضارات الشــرق القديمة، ويمكن تلخيص حجتهم في ذلك في النقاط الآتية:

  1. الواقع أن الخلاف ينشــأ ً أساســا من اختلاف النظر إلى الفلســفة، فتضييق معناها هو الذي حال دون إطلاقها على حكمة الشــرق القديم، ولو اتسع تعريف الفلســفة حتى شمل الحياة العملية والروحية، لأمكن القول بأنها نشأت بين شعوب الشرق القديم، وهذا التضييق ليس إلا تعبيراًعن تعصب الغربيين لحضارتهم.
  2. إذا كانت الفلســفة في الصيــن، ً مثلا، قد انحصرت في نطاق الأخلاق، والمثل الأعلى لســلوك الإنسان كما هو الحال عند «كونفوشيوس»، فقد كانت كذلك عند «سقراط» و«شيشرون» وما قال به «الإخوة الفيثاغوريون» ومع ذلك فقد كانوا ً جميعا فلاســفة، فلم لا نقول إن «كونفوشــيوس» و«مانشيوس» و «بتاح حوتب»... إلخ كلهم فلاسفة، رغم ميولهم العملية..؟
  3. إن امتزاج التفكير الفلسفي بالتفكير الديني عند قدماء الشرقيين لا ينفي عنهم الاهتمام بالفكر النظري، فقد حدث هذا الامتزاج في شتى عصور الإنسانية، لاسيما في العصور الوسطى عندما انشغلت الفلسفة بمشكلات دينية خالصة، ومع ذلك فإن هذا الانشغال لم يمنع من إطلاق لقب الفلاسفة عليهم.
  4. هناك الكثير من الأفكار الفلســفية التي ظهرت في حضارة الشرق القديم تردد صداها بعد ذلك عند فلاسفة اليونان، فإذا كان طاليس أول الفلاسفة ذهب إلى أن «الماء هو أصل الأشياء ً جميعا» فإن هذه الفكرة نفسها سبق أن ظهرت عند المصريين والبابليين، وقل مثل ذلك في فكرة التناسخ التي ظهرت عند قدماء الهنود وأخذها الفيثاغوريون عنهم.
  5. أما في مجال العلم، فلا شــك أن نوره قد انبثق من الشــرق القديم، فقد كان المصريون أول من ابتدع الرياضيات واخترع الميكانيكا، وابتكر الكيمياء، وأنشأ علم الطب، وأول من اخترع الكتابة وأقام المكتبات ودور الكتب، كما كان البابليون والكلدانيون أول من درس أجرام السماء، وأنشأ علم الفلك، وليس هناك علم من هذه العلوم لا يعتمد على أســاس نظري: فالجانب العملي لا يمكن أن ينفصل عن الجانب النظري.