إنَّ من سمات لبنان التاريخية، الحرية السياسة و الحيوية الزائدة، و هذا المدى المتنوع من القوى و الأحزاب و التنظيمات التي تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، و قد سمح بذلك التنوع فرادة الوضع السياسي في لبنان إزاء محيطه العربي، من حيث الخصوصية الناتجة عن البرلمانية و التنوع الطائفي و وجود الأقليات، و تنامي الميول الوسطية لدى القوى السياسية التي تشرعنت في الأحزاب خلال مراحل تاريخية محددة، فلكل كيان طائفي حزبه أو أحزابه، و هو متحصن بطائفته في وجه الحزب الأخر، و حتى في وجه الدولة أحياناً، فالطائفة تحد الطائفة و الحزب مقابل الحزب. تتناول هذه الدّراسة، و بشكلٍ مكثفٍ التّطور التَّاريخي للظَّاهرة الحزبيَّة في لبنان، و مراحل نشأتها خلال الحقب الأساسيَّة التي مرّ بها الكيان اللٌّبناني منذ العهد العثماني، إلى عهد الاحتلال الفرنسي، فمرحلة الاستقلال الوطني–ما قبل الحرب الأهلية و خلالها و ما بعدها- ثم تعرّجُ على الأنماط الأساسيَّة لهذه الأحزاب، لتنتقل إلى تناول أهم ملامح التَّجربة الحزبيَّة السّياسيَّة في لبنان. و تخلص إلى أنّ للنظام السّياسي تأثيرٌ كبيرٌ على الأحزاب، فكلُ نظامٍ ينتجُ أحزاباً على شاكلته. و النّظام اللّبناني باعتباره نظام الأفراد و العائلات و الطّوائف، و نظام الإقطاع التّقليدي و المالي، أنتج نظاماً حزبياً على شاكلته، وثيق الارتباط بالنسيج الطّائفي المتشظّي لهذا المجتمع، سواء لجهة قوانين الانتخاب المتتاليَّة، أو قانون الجمعيَّات و الأحزاب، أو قانون اللَّامركزية الإدارَّية، و كلها لا تساهم في توسيع مساحة العمل الحزبي، بل على العكس تساهم بإنتاج و إعادة إنتاج القوى التَّقليديَّة على حساب مؤسسات الدَّولة الحّديثة و منها الأحزاب.فالتفتيت السياسي يعجز عن احتكار المميزات و يحمل بذور الاختلاف إلى حده الأقصى، فيحول الأحزاب عن مهمة الناظم لنزاعات المجتمع و ضبط إيقاعها و يدفعها نحو الغلو في التمايز، و يأســر الحياة السياسية في حلبة عدم الاستقرار و التناحر.