التكنوقراطية (Technocracy):
تمثّل اتجاهًا فلسفيًّا في الحكم يميل إلى تفضيل استلام التقنيين وأصحاب المعرفة العلمية المختصة السلطةَ بدلًا بالسياسيين؛ لأننا نعيش في عصر التكنولوجيا ومتطلباتها، وبحاجةِ مَن يبحث عن حلول لمشكلاتها بأسلوب عصريٍّ وتقنيٍّ وعمليٍّ، وهو مفهوم حديث ظهر بوصفه فكرةً للمرة الأولى لدى المفكر الاشتراكي المثالي الفرنسي سان سيمون (1760-1825 Saint-Simon) في أثناء الثورة الصناعية والتكنولوجية؛ إذ توقع بزوغ مجتمع يحكمه العلماء والمهندسون، في حين رأى آخرون انطلاقًا من نظرته أنه ما دامت إمكانية تمرير السلطة الحقيقية من الممثلين المنتخبين إلى الخبراء الفنيين فإن ذلك يمثل انتقالًا من الديمقراطية مرورًا بالبيروقراطية إلى التكنوقراطية، وتبلوَر مصطلحُ التكنوقراطية على يد هنري سميث عام 1919 الذي أيَّد وصول المختصين علميًّا إلى الحكم وتسلم مهامه في المجتمع.
❀ برزت الحركة التكنوقراطية Technocracy movement في الولايات المتحدة في ولاية نيويورك في ثلاثينات القرن العشرين؛ إذ أُشيع استخدام هذا المفهوم على يد هوارد سكوت (Howard Scott 1970-1890)، فشكّل الركود الاقتصادي عام 1932 فرصةً لظهورها حلًّا مقترحًا للأزمة، وبدأت تنتشر الدعوة في مدنٍ أمريكية صناعية أخرى سريعًا، لكنَّها سرعان ما خمدت نتيجة محاولات الرأسمالية الاحتكارية استغلالها للسيطرة على الحكم، وعلى أثر ذلك اختفت أخبار التكنوقراطيين عام 1933، في حين استمرت أصداء هذه الحركة في أوروبا حتى 1936، ومازالت إلى الآن تنتشر روح التكنوقراطية في نزعات السيطرة الإدارية المنتشرة على نحو واسع في الولايات المتحدة.
❀ ومن أبرز أسماء المنظّرين لاتجاه التكنوقراطية في الحكم عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (1929 Jürgen Habermas) الذي اقترح ثلاثة نماذج تنظم عمل كل من العلم والسياسة معًا في الحكم من خلال مقالته (علم السياسة والرأي العام Verwissenschaftlichte
Politik und öffentliche Meinung) ويقترح هابرماس أنَّ أيَّ نظام سياسي لديه ثلاثة نماذج مقترحة لمواجهة تعقيدات المجتمع المعاصر المتزايدة، وهي:
1. إدارة مهنية على مستوى علمي قليل تسيطر على الحكم.
2. إدارة مختصة على مستوى علمي عالٍ تهيمن على الحكم.
3. أو أن يعمل كلا النموذجين معًا بطريقة براغماتية عملية وغير هرمية لإيجاد أفضل الحلول للمشكلات الاجتماعية الراهنة.
❀ ويمكن تفسير نماذج هابرماس على أنها أنماط مختلفة للحكم، وهي موجودة بالفعل في صنع السياسات وتنفيذها اليوم، إذ يمكن أن نلاحظ محاولة هابرماس إيجاد دور سلطوي للعلم من خلال اقتراح النموذج التكنوقراطي بوصفه أداة مساهمة في حل أزمات المجتمع ومشكلاته، إذ يتخذ التكنوقراط القرارات فيما يتعلق بالخطط الإستراتيجية وتخصيص صرف الموارد وتطوير العمل فيها وتوسيع تطبيق العلم، وبذلك يساهمون في الحكم لكن ذلك لا يعني إقصاءَهم شركاءَهم السياسيين في السلطة .